Saturday, January 10, 2009

Bahasa Manusia, Dari Manakah Ia Berasal?

أصل لغة البشر


اختلف الباحثون قديما وحديثا في قضية نشأة اللغة الإنسانية الأولى اختلافا واسعا، ووضعوا حولها نظريات شتى، أهمها نظرية التوقيف ونظرية المواضعة والاصطلاح ونظرية المحاكاة ، وهناك نظريات أخرى أقل شهرة من هذه التي ذكرتها ، ولكل من أصحاب هذه النظريات الثلاث أدلة ساقوها لتأييد مذهبهم والانتصار على الآخر. وهذا الاختلاف لم يكن حديث العهد عند العلماء، فأول من بدأ بالتحليل اللغوي الفلسفي هو سقراط نفسه كما جاء في كتابات أفلاطون، حينما بحث في ظاهرة اللغة، هل هي تواضع أم هي وحي وإلهام؟

وأما تاريخ هذا الخلاف عند المسلمين فيرجع إلى فترة ظهر فيها مذهب المعتزلة وعلى رأسهم أبو هاشم الجبائي، فهو أول من قال من المسلمين أن اللغات توقيفية كما هو المذكور في مجموع الفتاوى ، ثم واصل شيخ الاسلام حديثه موضحا: "فتنازع الأشعري وأبو هاشم في مبدأ اللغات، فقال أبو هاشم: هي اصطلاحية، وقال الأشعري: هي توفيقية" .

وإذا كان الأمر كذلك، فما سبب هذا الخلاف الكبير، وما أصله؟ وهل هناك مبرر لهذه الشدة والحدة؟ وهل اتخذ أبو هاشم الجبائي وأتباعه موقفا غير موقف جمهور المسلمين؟ وإن كان فلماذا؟ وهل تأثر الجبائي بفكرة فلسفية يونانية حينما قال إن اللغات اصطلاحية؟ وما معنى التوقيف؟ وإذا قلنا بالتوقيف فما هو الشيء الذي يترتب على ذلك؟ وأي المذهبين أولى بالترجيح؟

أسئلة كثيرة ومهمة، تحتاج إلى إجابة شافية بعيدة من التعصب وضيق الأفق. وقبل الإجابة عن هذه الأسئلة يتعين السؤال: هل الحاكم في المسألة هو العقل أم الكتاب والسنة؟

وإذا كان عقلا فهل للعقل مجال في الخوض في الأمور الفلسفية الميتافيزيقية أي ما وراء الطبيعة؟ وهل قضية نشأة اللغة الإنسانية من الأمور الفلسفية الميتافيزيقية التي لا سبيل لإدراك حقائقها إلا عن طريق الوحي الإلهي؟ وإذا كان كذلك فما ينبغي أن يكون موقف المسلمين من هذه القضية؟

للإجابة بتفصيل عن هذه الأسئلة الكثيرة والمثيرة: نستعين بالله ونتوكل عليه، ونسأله تعالى التوفيق والهداية إلى أقوم طريق، فنقول ما قال موسى على السلام: "رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني، يفقهوا قولي" . ونقول ما قاله الراسخون في العلم هنا: "ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب" .

1- نظرية التوقيف:
وتركز نظرية التوقيف – كما سماها ابن فارس - أو الوحي والإلهام في أن اللغة منحة إلهية، لا يستطيع البشر اختراعها، واستدل أصحابها على ذلك بقوله تعالى: "وعلم آدم الأسماء كلها" ، وهذا مذهب الأشعري وأتباعه وابن فورك وغيرهما.

ما معنى التوقيف؟ وفي الحقيقة إن علماء المسلمين أنفسهم قد اختلفوا في تحديد معنى التوقيف:

فقال الإمام فخر الدين الرازي – على سبيل المثال- التوقيف هو "أن الله خلق علما ضروريا بتلك الألفاظ وتلك المعاني، وبأن تلك الألفاظ موضوعة لتلك المعاني".
وأما التوقيف كما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية فهو خطاب الله بها، لا تعريفه بعلم ضروري. ثم أعقب حديثه موضحا: فمن قال إنها توقيفية، وإن التوقيف بالخطاب، فإنه ينبني على ذلك أن يقال: إنها (أي سائر اللغات الإنسانية) غير مخلوقة، لأنها كلها من كلام الله تعالى، لكن نحن نعلم قطعا أن في أسماء الأعلام ما هو مرتجل وضعه الناس ابتداء، فيكون التردد في أسماء الأجناس.

وإذا كان التوقيف بالمعنى الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية فلا نستطيع أن نجزم بأن اللغة توفيقية، أي أن الله تعالى خاطب بها آدم عليه السلام فتعلمها، ثم وقّفه عليها، وذلك لوجود ما هو مرتجل في أسماء الأعلام الذي اتفقنا على أنه من وضع البشر. وأيضا فإن اللغة إن كانت غير مخلوقة بسبب ذكرناه لكانت قديمة متصفة بالبقاء، لا تقبل الفناء، والمأثور أنه قد غرق في أثناء الطوفان جميع ذرية آدم إلا من في السفينة، ولم يكونوا يتكلمون بجميع اللغة التي تكلمت بها الأمم قبلهم بعشرة قرون .

وأما إذا كان التوقيف معناه كما ذكر الإمام فخر الدين الرازي فلا مانع من القول بأن اللغة توفيقية، ولعل هذا قصد شيخ الإسلام ابن تيمية حينما قال: "بل يكفينا أن يقال: هذا غير معلوم وجوده، بل الإلهام كاف في النطق باللغات من غير مواضعة متقدمة، وإذا سمي هذا توقيفا، فليسم توقيفا".
وإن لم نقل اللغة توقيفية فهل نوافق من قال بأنها اصطلاخية؟ ننظر، ما معنى الاصطلاح، أي ما هي نظرية المواضعة والاصطلاح التي وصفها ابن جني بما إليها أكثر أهل النظر.

2- نظرية المواضعة والاصطلاح:

تدور نظرية المواضعة والاصطلاح حول أن واضع اللغة هو البشر نفسه، ليس الله هو الذي علّمها آدم عليه السلام، لا لقّنها البشر على لسان آدم عليه السلام، ولا ألهمه على أن واضع عليها، ولا خلق في نفسه علم الضرورة باللغة، ولا علمه إياها على الإطلاق، لا بتعليم مباشر أو غير مباشر، إنما هي تمت على أيدي جماعة يتمتعون بعقلية عالية اجتمعوا ليصطلحوا على أسماء الأشياء فوضعوا لكل منها سمة ولفظا.

وذلك ما فُهِم من خلال شرح ابن جني وشيخ الإسلام ابن تيمية لهذه النظرية حيث يقول ابن جني: "ذلك كأن يجتمع حكيمان أو ثلاثة فصاعدا، فيحتاجوا إلى الإبانة عن الأشياء المعلومات، فيضعوا لكل واحد منها سمة ولفظا، إذا ذكر عرف به ما سماه ليمتاز من غيره، وليغنى بذكره عن إحضاره إلى مرآة العين، فيكون ذلك أقرب وأخف وأسهل من تكلف إحضاره لبلوغ الغرض في إبانة حاله".

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "فيدعي (أي القول بأن اللغة اصطلاحية) أن قوما من العقلاء اجتمعوا واصطلحوا على أن يسموا كذا بكذا، وهذا بكذا.."

فإن خلاصة هذه النظرية على ضوء ما شرحها ابن جني في الخصائص وشيخ الاسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى يمكن أن تُطوى في النقطتين التاليتين:

الأولى: أن البشر هو الواضع للغة.
الثانية: أن يكون هناك على الأقل عاقلان حكيمان حتى تتم عملية الاصطلاح والاتفاق.

ننظر في النقطة الأولى: إن واضع اللغة هو البشر نفسه، ثم نسأل: هل للبشر مقدرة كافية لأن يخترع اللغة التي عدد الأسماء لمسمياتها لا تحصى ولا تعد؟ فإن قال: إنما وضع الإنسان الأول أسماء المسميات التي حوله فحسب، فنقول له – إن كان مسلما مؤمنا بالكتاب والسنة- ماذا تقول في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن آدم سأل ربه أن يريه صور الأنبياء من ذريته، فرآهم فرأى فيهم من يبص، فقال: يا رب من هذا؟ قال: ابنك داود". فإن آدم بذلك قد علم اسما لنبي الله داود عليه السلام وهو لم يكن ممن حوله في أثناء الإصطلاح والتواضع.

وإن كان ليس مسلما ولا مؤمنا بالكتاب والسنة فنقول له ما قاله ابن حزم: "لو كانت اللغة اصطلاحا لما جاز أن يصطلح عليها إلا قوم كملت أذهانهم وتدربت عقولهم وتمت علومهم، ووقفوا على الأشياء كلها الموجودة في العالم وعرفوا حدودها واتفاقها واختلافها وطبائعها وبالضرورة نعلم أن بين أول وجود الإنسان وبين بلوغه هذه الصفة سنين كثيرة جدا يقتضي فيها تربية وحياطة وكفالة من غيره. إذ المرأ لا يقوم بنفسه إلا بعد سنين من ولادته. ولا سبيل إلى تعايش الوالدين والمتكلفين والحضان إلا بكلام يتفاهمون به مراداتهم فيما لابد لهم منه، فيما يقوم معايشهم من حرث أو ماشية أو غراس، ومن معاناة ما يطرد به الحر والبرد والسباع، ويعاني به الأمراض، ولابد لكل هذا من أسماء يتعارفون بها ما يعانونه من ذلك. وكل إنسان فقد كان في حالة الصغر التي ذكرناه من امتناع الفهم والاحتياج إلى كافل، والاصطلاح يقتضي وقتا لم يكن موجودا قبله، لأنه عمل المصطلحين، وكل عمل لابد من أن يكون له أو فكيف كانت حالة المصطلحين على وضع اللغة قبل اصطلاحهم عليه، فهذا من الممتنع المحال ضرورة".

وأيضا فإن الإصطلاح على وضع اللغة لا يكون ضرورة إلا بكلام متقدم بين المصطلحين على وضعها، أو بإشارات قد اتفقوا على فهمها، وذلك الاتفاق على فهم تلك الإشارات لا يكون إلا بكلام ضرورة ومعرفة حدود الأشياء وطبائعها التي عبر عنها بألفاظ اللغات لا يكون إلا بكلام وتفهيم، لابد من ذلك، فقد بطل الاصطلاح على ابتداء الكلام.

وأما النقطة الثانية فتحتاج إلى امعان النظر فيها، ثم نسأله إن كان مسلما: هل قرأت قوله تعالى: "ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها". ؟ إن كان الجواب نعم، فنسأله: هل أصرت على القول بنظرية المواضعة والاصطلاح التي على مفهوم ذكرناه آنفا؟ وإن كان الجواب نعم، فنقول له: قد أنكرت بما جاءت به الآية من أن أول نوع من أنواع البشر خُلِقَ هو آدم عليه السلام، وكي يتحقق مفهوم نظرية المواضعة والاصطلاح يحتاج إلى اجتماع نفرين، وسيدنا آدم عليه السلام حينما أظهر الله أمام الملائكة فضله عليهم بسبب علمه بالإسماء كان واحدا.

وإن كان ليس مسلما ولا مؤمنا بالكتاب والسنة نقول له: من أين أتيت بهذه النظرية؟ هل هي من عقلك؟ وإن كان الجواب نعم، فنقول: هل للعقل مجال في الخوض في الأمور الفلسفية الميتافيزيقية؟ وإن قال، إن المسألة ليست من الأمور الفلسفية الميتافيزيقية، فنقول: ائتنا بآثار تاريخية محسوسة لتؤيد مذهبك!! ولكنه كما قال شيخ الاسلام ابن تيمية: "فمن ادعى وضعا متقدما على استعمال جميع الأجناس، فقد قال ما لا علم له به".

هذا بالنسبة لنظرية المواضعة والاصطلاح التي وصفها ابن جني وشيخ الاسلام، وإذا لاحظنا مضمون النظرية وجدنا فيه شيئا لا ينبغي أن يخرج مثله من شخص مسلم، وذلك لأن المسلم قد اعتقد اعتقادا جازما بأن آدم عليه السلام هو أول إنسان خلق، لم يسبقه أحد من النوع الإنساني، وهو أبو البشر. قال تعالى: "ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها". ؟ وقال صلى الله عليه وسلم: "يجتمعون يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو الناس" .

وحتى نحكم بالعدل ننقل هنا ما قاله أبو هاشم الجبائي تبيانا موقفه مع تأييد ما ذهب إليه من أن اللغة اصطلاحية: "إنه لابد من تقدم لغة اصطلاحية واحتج على أنه لابد وأن يكون الوضع مسبوقا بأمور.

أحدها: أنه لو حصل العلم الضروري بأنه وضع هذه اللفظة لهذا المعنى لكان ذلك العلم إما أن يحصل للعاقل أو لغير العاقل، لا جائز أن يحصل للعاقل لأن لو حصل العلم الضروري بأنه تعالى وضع ذلكاللفظ لذلك المعنى لصارت صفة الله معلومة بالضرورة مع أن ذلته معلومة بالاستدلال وذلك محال ولا جائز أن يحصل لغير العاقل لأنه يبعد في العقول أن يحصل العلم بهذه اللغات مع ما فيها من الحكم العجيبة لغير العاقل، فثبت أن القول بالتوقيف فاسد.
وثانيها: أن الله تعالى خاطب الملائكة وذلك يوجب تقدم لغة على ذلك التكلم.
وثالثها: أن قوله (وعلم آدم الأسماء كلها) يقتضي إضافة التعليم إلي الأسماء. وذلك يقتضي في تلك الأسماء أنها كانت أسماء قبل ذلك التعليم، واذا كان كذلك كانت اللغات حاصلة قبل ذلك التعليم.

ثم أجاب الإمام فخر الدين الرازي عن تلك الأسئلة بأجوبة أراها قد أبطلت مذهب أبي هاشم الجبائي في القول بأن اللغة اصطلاحية:

فالجواب عن الأول:لم لا يجوز أن يقال بخلق العلم الضروري بأن واضعا وضع هذه الأسماء لهذه المسميات من غير تعيين أن ذلك الواضع هو الله تعالى أو الناس؟ وعلي هذا لا يلزم أن تصير الصفة معلومة بالضرورة حال كون الذات معلومة بالدليل. سلمنا أنه تعالى ما خلق هذا العلم في العاقل، فلم لا يجوز أن يقال : إنه تعالى خلقه في غير العاقل والتعويل على الاستعباد في هذا المقام مستعبد.
والجواب عن الثاني: لم لا يجوز أن يقال خاطب الملائكة بطريق آخر بالكتابة وغيرها.
والجواب عن الثالث: لا شك أن إرادة الله تعالى وضع تلك الألفاظ لتلك المعاني سابقة على التعليم فكفي ذلك في إضافة التعليم إلى الأسماء.

وهناك عدة ردود ألقاها أصحاب هذه النظرية على مذهب التوقيف، أراها لابد من مناقشتها مناقشة علمية بعيدة من التعصب لنظرية التوقيف. ذكر الدكتور شعبان زين العابدين عند حديثه عن نظرية المواضعة والاصطلاح جملة من الردود التي أوردها أصحاب هذه النظرية ، نذكرها فيما يلي:

1- أن العلاقة بين الألفاظ ومعانيها علاقة عرفية، لا تخضع لمنطق أو عقل، فما يسمى بالشجرة، كان ممكن أن يسمى بلفظ آخر، ومن ثم لا يليق أن ينسب هذا العمل الناقص أو الذي عدم الحكمة إلى الله تعالى.

2- أن معظم اللغات تشتمل على مفردات شذت عن النظام المألوف لللغة، فالكلمات التي تعبر عن أكثر من معنى مثل المشترك والكلمات التي تدل عدد منها على معنى واحد كالمترادف مما لا يتفق مع إحكام صنع الله.

3- تأويل الدليل النقلي لمذهب التوقيف بقولهم: أن "علّم" في قول الله تعالى: وعلم آدم الأسماء كلها، معناها "أقدر" أي أقدر الله تعالى آدم على النطق بألفاظ معينة، وأوعده القدرة على خلقها بنفسه، والتصرف في تراكيبها.

فالجواب عن الأول يحتاج إلى عدة ملاحظات، من القائل؟ إن كان قائله ليس مؤمنا بالله سبحانه وتعالى، فلما تحدث عن ما لاق في حقه سبحانه وتعالى وما لم يلق في حقه؟ يتعين ذلك أن قائله مؤمن، فلما ثبت أنه مؤمن، علما أنه لا علاقة بين عيوب اللغة وبين مصدرها الإلهي، فقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، ومع ذلك جعل فيه قابلية الخير والشر، وذلك لحكمة أرادها رب العالمين من وجود الإنسان في الحياة الدنيا. وقال تعالى في وصفه لطبيعة الإنسانية: "فألهمها فجورها وتقواها".

والجواب عن الثاني أيضا يحتاج إلى شيء من الملاحظات، من القائل؟ مادام يتكلم عن إحكام صنع الله وعدمه فنقول عنه بأنه مؤمن بالله، فالملحد لن يتعرض للحديث عن ذلك لعدم إيمانه بوجود الله، وبالتالي نخاطبه مخاطبة مؤمن لمؤمن: ما تقول في الأسماء المشتركة التي جاءت في القرآن كالقرء المتردد بين الحيض والطهر وكالنجم المتردد بين الكوكب المألوف والنبات الذي لا ساق له. وإن قلت إن في ذلك عدم الإحكام فقد أصبت، ولكن هل عدم الإحكام يعتبر عيبا في حق الله سبحانه وتعالى؟ والله سبحانه وتعالى يقول: "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات". ويقول تعالى: "الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني". ويقول تعالى أيضا: "الر، كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدنْ حكيم خبير". وهذا كله إن دل على شيء إنما يدل على أن عدم الإحكام ليس عيبا.

والجواب عن الثالث، نقول إن التأويل وهو صرف الكلام عن ظاهره يحتاج إلي قرينة لفظية كانت أو معنوية تمنع من إجراء الكلام على ظاهره، كتأويلك لفظ الأسد عن معناه الأصلي إلى معنى الرجل الشجاع في قولهم: رأيت أسدا يخطب على المنبر. وذلك لوجود قرينة لفظية وهي "يخطب على المنبر"، فالأسد لا يخطب ولا يقف على المنبر، إنما هو في الغابة أو في حديقة الحيوانات، تأكل اللحوم وتصطاد الأضاحي.

ولو افترضنا أنه صح تأويلهم "علّم" بمعنى أقدر الله آدم على أن واضع عليها (أي اللغة)، فليس فيه حجة لأصحاب نظرية المواضعة والإصطلاح، وذلك لأنه إن صح – والله أعلم - أن الله تعالى أقدر آدم عليه السلام أي أعطاه القدرة ليضع اللغة لكان وضعها وحده، لا يحتاج إلى عاقل حكيم آخر، يجلس معه كي يصطلحا هما على شيء ثم يتفقا على تسميته باسم معين. وهذا لا تنضبط عليه نظرية المواضعة والاصطلاح التي لخصها ابن جني في الخصائص وشيخ الاسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى.

فبهذا نقول إن البشر لا يستطيع أن يخترع اللغة، وإن قلنا ذلك فمن الذي صنعها للبشر؟ من الذي أوجدها من العدم؟ لابد لها من نقطة البداية.. ولابد لها من مصدر خرج عنه.. هل هناك من قد وضعها؟ إذا كان الجواب نعم، فمن هو؟ أريد أن أقول إن واضعها هو من له قوة عظمى فاقت كل ذي قوة... أريد أن أقول إن واضعها هو الله... لكنه مخالف لمنهجي الذي يجعل العقل مصدرا أعلى لعملية الكشف عن حقائق الأشياء.

وبهذا كله قد ثبت بطلان مذهب المواضعة والاصطلاح، ولا يجوز أن يلتفت إليه المسلمون، لأنه مبني على أساس باطل، وهو اتخاذ العقل وسيلة للخوض في أمور وراء الطبيعة، والأساس إن كان فاسدا فما ينبني عليه فهو فاسد. فبناء على ذلك لا داعي لمناقشة النظريات الأخرى المبنية على العقل ألبتة كنظرية المحاكاة والإنفعال وغير هما.

والله المستعان... إذا قررنا ألا نلتفت إلى مذهب المواضعة والاصطلاح لأسباب ذكرناها من قبل، فهل نقول بمذهب التوقيف؟ ننظر... هل بالضرورة إذا فسدت نظرية المواضعة والاصطلاح أن يترجح مذهب التوقيف؟ ما حقيقة مذهب التوقيف؟ فمن هنا خطر ببالي شيء وهو ما أسهل الأمر وأوضحه إذا لم يسمه ابن فارس توقيفا بل أبقاه وحيا وإلهاما، لأن مصطلح التوقيف يحتمل معنيين، خطاب الله بها أو خلقه تعالى علما ضروريا في نفسه بها .

وإن كان التوقيف على مفهوم ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وهو أن خاطب بها الله آدم، يستلزم قدم اللغات كلها، وهو غير جائز ، فنظرية التوقيف فاسدة.
وإن كان التوقيف على مفهوم ذكره فخر الدين الرازي وهو أن الله خلق في نفس آدم علم الضرورة باللغة ولا يستلزم قدم اللغات كلها، فنظرية التوقيف بهذا المفهوم مقبولة.
وإن كان الأمر كذلك، فما موقفنا؟ هل موقفنا في هذا كموقف شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث قال: "والنزاع فيها بين أصحابنا وسائر أهل السنة يعود إلى نزاع لفظي فيما يتحقق فيه النزاع وليس بينهم والحمد لله خلاف محقق معنوي". أو نتخذ موقفا آخر، ننظر..

اتفقنا نحن المسلمين بعد غض النظر إلى نظرية المواضعة والاصطلاح على أن الله سبحانه وتعالى هو الذي وضع هذه اللغة ثم اختلفنا هل خاطب بها آدم عليه السلام فتعلمها أي لقنها البشر على لسان آدم أم علّمه الله إياها بطريقة لا نعلمها نحن؟


تعليق وترجيح

وما أراه راجحا هو أن الله قد علمها آدم عليه السلام بطريقة لا يعلمها أحد من غيره، لأن طريقة التعليم في قوله تعالى: "وعلم آدم الأسماء كلها" مجملة ومحتملة لكيفيات، فالمجمل يبقى مجملا إذا لم يكن هناك أي تخصيص من الكتاب أو السنة أو الإجماع، ولعل في ذلك الإجمال حكمة أرادها الله لا يعلمها إلا هو سبحانه. والعلماء قد وضعوا حول طريقة هذا التعليم احتمالات لا يمكن أن يغلب أحدها على الآخر لعدم وجود النصوص الماثورة لا من الكتاب ولا من السنة. والاحتمالات التي وضعها العلماء حول طريقة تعليم الله آدم عليه السلام اللغة تدور بين إلهام علمه ضرورة أو بواسطة ملك أو بتكليمه له في السماء واختاره أبو حيان.
وقال العلامة ابن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير: "وليس في هذه الآية (وعلم آدم الأسماء كلها) دليل على أن اللغات توقيفية، أي لقنها الله البشر على لسان آدم ولا على عدمه".

ثم اختلف الجمهور بعد اتفاق كون واضعها هو الله في أي الأسماء علمه؟ فقال ابن عباس وقتادة ومجاهد: علمه اسم كل شيء من جميع المخلوقات دقيقها وجليلها". وهذا هو القول الراجح في تفسير الأسماء التي علمها الله آدم، وأيد ذلك قوله تعالى: "وعلمه البيان". قال البغوي في تفسيره: أسماء كل شيء، وقيل: علمه اللغات كلها، وكان آدم يتكلم بسبعمائة لغة أفضلها العربية. وقد أخرج البخاري حديثا رواه أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يجتمعون يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو الناس، خلقك الله بيدهوأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء" . قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقوله تعالى: "الأسماء كلها"، لفظ عام مؤكد لا يجوز تخصيصه بالدعوى".

وهذا الخلاف إنما في كيفية التعليم، لا في كيفية وضع اللغة، لأن جمهور المسلمين قد اتفقوا على أن اللغة أكبر من أن يضعها البشر، وأن آدم قد تلقى تعليما من الله، مهما اختلافهم في الكيفية، ومصدرها هو الله. ولولا التوقيف بمعنى خطاب الله بها لرجحت مذهب التوقيف. وعليه فإني أقترح استبدال مصطلح التوفيقية بـ"نظرية التعليم الرباني"، لأنه لا يحتمل أن يكون معناه خطاب الله بها، وفي الكتاب يقول تبارك وتعالى: "اتقوا الله يعلمكم الله".

No comments:

Geoglobe

Geocounter

About Me

My photo
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما العلم بالتعلم ( حديث حسن، انظر : صحيح الجميع ، للأ لبانى ) " Sesungguhnya 'ilmu itu,-hanya bisa diperoleh- dengan BELAJAR "